فاطمة الزهراء: مسار شابة خرجت من وسط « حطام » الإعاقة ووصم المجتمع إلى حياة « الإدماج »
سعيد غیدى
فاطمة الزهراء، شابة عشرينية تتحرك بصعوبة، بعد تجربة مريرة وقاسية مع تعرضها لخطأ طبي لحظة ولادتها، حوّل بقية حياتها إلى إعاقة حركية، جنت عليها الكثير من الازدراء واحتقار الآخرين، في بيئة لم تحضنها، كما يليق بفتاة معاقة، بل رفضتها وتركتها لأنياب مكشرة تأكل من قلبها ولحمها، وتنهش عرضها وأملها في أن تكون كما تريد، في مكان وزمان فُرِضا عليها قسرا.
من سيدي مومن، هذا الحي الذي يُخبّئ في جلبابه كل المتناقضات، خرجت هذه الشابة التي تتمشى بعُسر، كي تقول للحياة « أنا هنا ».
التقينا فاطمة الزهراء، التي تتمشى وتتحدث بصعوبة، بسبب إعاقتها الجسدية، الأقرب إلى تداعيات الشلل النصفي، بقميصها المُخطط عموديا بالأزرق والأخضر والأبيض، والذي تضع تحته « tricot col monté » بالأسود، وسِروال « دجينز » باللون ذاته، عليه أثر بقع المشروبات والأكل، وخرقة سوداء تشبه « الفولار » تضعها فوق شعرها الأشعث، والمنفوث كما نراه من جنبات رأسها. قادمة إلى مكتب رئيس جمعية « إدماج » بسيدي مومن حيث صوّرنا معها اللقاء، بعد أن قطعت مشيا على أقدامها ساحة الجمعية، التي تصل 200 متر تقريبا، برجليها وهي ترتدي « سبرديلة » تآكلت من الأمام بسبب جرها لرجليها بفعل الإعاقة. نزلت فاطمة الزهراء ثلاث درجات بصعوبة، مستعينة بيديها لتصل إلى مكان التصوير، الذي ولجت إليه وهي تتصبب عرقا. رغم أن الأيام الأخيرة من رمضان كانت درجات حرارتها تعرف انخفاضا في مدينة الدار البيضاء.
بفم مفتوح عن آخره، تحدثت فاطمة الزهراء عن التحاقها بمركز إدماج الذي أسسه بوبكر مازوز، الرجل الذي يعرف كثيرا عن ثقافة أمريكا، بعد أن قضى حياته المهنية واحدا من موظفي قنصليتها بالدار البيضاء، وحمل بعد ذلك إلى سيدي مومن فكرته، بتأسيس مركز ثقافي يأوي بنات وأبناء حي سيدي مومن الهامشي والغارق في الفقر والمخدرات والإرهاب، خصوصا بعد العمليات الانتحارية التي عرفتها الدار البيضاء في خمسة أماكن مختلفة سنة 2003، والتي كان منفذوها شباب مُلتحٍ من سيدي مومن.
لم يكن في حسبان فاطمة الزهراء، الشابة التي وصلت فوق عشرين سنة، أن تحيى؛ بعد أن فقدت أملها في الحياة، وبعد أن فضلت مكرهة، أن تنزوي في ركن بيت أسرتها، منتظرة الموت، لعله يخلصها من شظف العيش، ومن مجتمع وصمها بالمُعاقة، وتركها تمشي إلى حتفها مسرعة، حتى وإن كانت تتمشى بعسر.
تركت الشابة المعاقة كراسي القسم، حيث كانت تُتابع دراستها في السلك الإعدادي، يوم صاحت في وجها أستاذة تلقن لغة « شكسبير » قائلة: « أنت لا تليق بك الحياة، اذهبي وانتظري موتك، لعل ذلك يرحمك ». لم يكن تنفس فاطمة الزهراء طبيعيا وهي تروي هذا الكلام، حتى أصابع يديها التي تبدو متشابكة في شكل معقد، زادت تشابكا وتعقيدا وكأنها مصنوعة من أغصان الشجرة، تحس كأنك لو تلمسها تتكسر من كثر تيبُّسها.
كانت تتنهد كأنها تتذكر طعنة غادرة في قلبها، كادت ترديها قتيلة، لولا أن قاومت تلك الجروح كلها، متسلحة بإرادة الحياة، واختارت أن تتحدى كل شيء من أجل أن تثبت لكل من طعنها، كم هي جديرة بالحياة.
في مركز إدماج، الذي يبعد عن بيت فاطمة الزهراء بمسافة « تاكسي »، استقبلها المدير بابتسامة لا تزال تذكرها بكثير من الفرح والامتنان، كما تذكر أول سؤال طرحه عليها مازوز:
ماذا تريدين فاطمة الزهراء؟
لتُجيب:
أريد أن أدرس
وذلك ما كان، ولجت إلى المركز، وبدأت الشابة التي خرجت من عتمات البيت، ومن ظلمات واقع جعل منها البئيسة والقذرة والنكرة والمرفوضة والمريضة، (بدأت) تكتشف نفسها، وتفتش في قعرها الدفين عن هويتها، وملامحها، وبدأت تستعيد نفسها وشخصيتها، برفقة بنات وأبناء المركز الذين يتطوعون في كل شيء، من أجل أن تسترجع الشابة التي ماتت كثيرا، روحها، وتتنفس أخيرا، بعد أن صعدت إلى سطح ماء الجُبّ، حيث رماها إخوتها، واتهموا الذئب بالدم كذب، بتعبير محمود درويش.
سألت فاطمة الزهراء:
متى ولدتِ؟
لتُجيب:
« منذ أن وطأت أقدامي مركز « إدماج
لم أكن منصدما من جوابها، وهي التي قرأت عليّ قبل ذلك، شذرات شعرية، كتبتها تمدح وتتغزل بالمركز، وقالت في مازوز شعرا لم يقله مالك في خمرة، فأدركت من جوابها؛ أنها تشعر بامتنان كبير للمركز ولكل من يدب فيه وعليه.
تقضي فاطمة الزهراء كل وقتها في المركز، تارة تأتي على متن التاكسي، وتارة أخرى تركب « الطوبيس » لم يعد يهمها أي المواصلات ستوصلها إلى باب المركز، المهم عند الشابة، أن لا تبقى في بيت غير صالح إلا للمأكل والنعاس.