واقع العنف ضد النساء في حي بئر الشفاء

واقع العنف ضد النساء في حي بئر الشفاء

يونس حراق

لا يكاد يخلو حي من الأحياء الهامشية بمدينة طنجة من الآفات الاجتماعية بمختلف مظاهرها. وحي بئر الشفاء من بين هاته الأحياء، وهو الذي انبثق في بدايته كحي صفيحي يفتقر إلى أبسط وسائل الحياة الكريمة، وقد نتج عن ظاهرة الهجرة القروية، إذ ارتحلت إليه أسر من مختلف المناطق القروية المجاورة. فشيدت فيه منازل قصديرية تعرف في المنطقة باسم « بْرَاكَة » وفي أحسن الظروف منازل عشوائية، ومع مرور الزمن تحسنت وضعيته – إن صح التعبير – وقلت فيه دور الصفيح لتكثر في المقابل المنازل العشوائية، التي شيدت بتواطؤ مع السلطات المحلية، أما عن الساكنة فالحي مكتظ على آخره بأسر ومجموعات يتقاسمن المسكن، فنظرا لارتفاع نسبة الهجرة إلى المدينة بصفة عامة، تجد المنزل الواحد المكون من ثلاث طوابق تسكنه خمس إلى ست أسر أو مجموعات يزدحمون في بيوت صغيرة معدة للمبيت فقط، لأن أغلب القاطنين يقصدون الحي نظرا لقربه من المنطقة الصناعية  » كْزْنَايَه »  أو معامل النسيج بمنطقة  » مْغُوغَه والعَوَامَة » فهم يقضون أغلب أوقاتهم في العمل، وبالتالي فإن هؤلاء يرتضون بالقليل من أجل جمع المال لإعالة أسرهم، ويساعد في ذلك انخفاض ثمن الكراء إذا ما قورن بأحياء أخرى.

أمام هذه الوضعية، ومع غياب للأسرة المتماسكة وانتشار للأمية والفقر فإن أسر كثيرة تدفع ببناتها إلى مغادرة المدارس والالتحاق بمعامل النسيج في محاولة بائسة لتحسين الوضعية الاقتصادية، كما أن أسر كثيرة من مناطق قروية أو مدن منسية يرسلنا بناتهم لتخليصهم من الفقر من خلال عملهن في النسيج، إذ بمجرد زيارة لأي ورشة خياطة في أي معمل للنسيج بالمناطق الصناعية، سيتبين للزائر أن أغلب العمال هم فتيات في عمر الزهور وأحيانا قاصرات.

حليمة، 16 سنة من مدينة سيدي قاسم، فتاة من هذه العينة تحكي قصتها التي بدأت عند الساعة الرابعة صباحا، كانت تغادر البيت الذي تكتريه رفقة 4 نساء ينحدرن من نفس المنطقة، يتقاسمن 4 أمتار مربعة ومرحاض معزول برواق من ثوب أبيض. في ظلمة الأزقة وأصوات القطط وعويل الريح وضحكات السكارى تشق طريقها للإتحاف بزميلاتها الاتي يتجمعن ليحمين بعضهن البعض أثناء انتظار حافلة العمال التي ستنقلهم كما العادة إلى مقر العمل، حليمة غالبا ما تستفيد من الفترة التي تسبق وصولها إلى معمل النسيج عبر الحافلة لتعويض ما فاتها من النوم، سيكون يوما شاقا، تنضاف إلى مشقة الانكباب على آلة الخياطة التي تسبب وضعية الجلوس أمامها بشكل مقوس آلام في الظهر، صراخ المسؤولين عن العمل الذي وصل في أحيان كثيرة إلى السب والشتم واحتقار كرامتها كفتاة. ليس هذا فقط، حليمة تلك البنت  » العْرُوبِيَه الجميلة  » تتعرض بشكل يومي للتحرش الجنسي من طرف زملائها من الرجال في العمل، قد يكون هذا بالنسبة لها أمرا عاديا اعتادت عليه مع الوقت، لكن الأمر يفوق ذلك، تحكي حليمة أنها في مرة نادها  » الشاف  » لتلتحق به إلى مكتبه، تفاجأت جراء هذه الدعوة وخافت أن يكون الموضوع له علاقة بأخطائها في إنجاز العمل، لأنها تخاف أن تطرد فينكب عليها أبوها بوابل من الشتم والنعوت السيئة، فهي معيل أسرتها ومخلصهم من الجوع، لكن الدعوة لم تكن لهذا الموضوع ولكن لشيء آخر، تفاجئ في البداية لأن ما توقعته منه كان عكس ما جرى، حاول في البداية التغزل بها كما يفعل باقي الرجال المحيطين بها في العمل، إلا أنه طلب منها هذه المرة ممارسة الجنس مقابل ضعف ما تتقاضاه مقابل العمل. تكررت المحاولة وتكررت معها المقاومة، ومع ذلك قاومت واستمرت في العمل وكانت المغريات أحيانا تأتيها كذلك من فتيات يعملنا معها  » كن كنت في بلاصتك مانضياعش هاذ الفرصة  » لم تكن تدري حليمة إلى متى ستصمد المقاومة.

بعد عودتها إلى البيت منهكة تشبع جوعها بأرخص وجبة ممكنة لتوفر أكبر قدر من المال لأسرتها، لتغط في النوم من جديد حتى تتمكن من الاستقاظ باكرا. أيامها تتشابه مع بعض التغيرات العرضانية، مرة وهي عائدة إلى البيت وكان التاريخ، اليوم الخامس من الشهر وأجرتها الشهرية التي بلغت 1700 درهم تملء حقيبتها وعقلها الذي يخوض في إجراء الحسابات كمحرك يساير خطواتها المتسارعة، كان تسير دون تركيز في الطريق لأنها اعتادت على نفس المسار، هذه سومة الكراء، وهذا قدر مساهمتي في مصاريف البيت، وهذه لمشاركتي في  » دارت  » والباقي سأرسله إلى والدي… أحست فجأة أن هناك خطوات تتربص بها، فالتفتت لترى رجل يغطي رأسه بقبعة ويده مخفية خلف ظهره، توجست منه وفي ردت فعل سريعة التفتت لتخلص نفسها بالهروب مما يخيفها لكنها اصطدمت بشخص آخر وقد أمسكها بإحكام ليسلب منها الأول في سرعة خاطفة حقيبتها مهددا إياها بسكين إن هي حاولت الصراخ، والغريب أن كل هذا وقع أمام أنضار المارة ولم يتدخل أحد منهم. فر الشخصان وسقطت حليمة مغشيا عليها لشدة الهلع والصدمة. استفاقت فيما بعد بين يدي رفيقاتها في المسكن الذي لم يكن يبعد إلى بضع أمتار. بكت كثيرا تلك الليلة لأنها كانت تعلم أن أيامها القادة ستكون أشد سوادا. تحققت مخاوفها. طردتها رفيقاتها من البيت لأنها لم تسدد معهن أجرة الكراء، وأشبعا والدها السب والشتم والتوعد بالضرب والقتل، كانت قد قدمت شكوى لمخفر الشرطة ولكن لم تأتي بأي نتيجة. وجدت نفسها في الشارع مع كومة من ملابسها الملفوفة في قطعة من قماش لا مخلص لها وهي الغريبة في هذا الحي.

حليمة الآن تكتري بيتا أحسن حالا بقليل من ذاك الذي كانت تتشاركه سابقا مع رفيقاتها، بمفردها تساير الحياة، لم تعد تثق في أي كان. لازالت تشتغل في معمل للنسيج طيلة النهار، أما الليل فله شأن آخر، ففي خضم ما عانته خلال الفترة التي تلت ما تعرضت إليه بعدما طردت من البيت، تعرفت على أحد البنات التي كانت تشتغل معها في نفس المعمل، وكانت في ورشة الخياطة بنتا محتشمة ترتدي حجابا يوحي بالوقار والتدين، هذه الأخيرة هي التي قدمت لها يد المساعدة حين تخلى عنها الجميع، فعرفتها على طريقة جديدة لكسب مزيد من المال. في الليل كانت تخرج معها إلى شارع  » البولفار  » هناك حيث تمر سيارات تلتقط النساء من على الرصيف ليقضين الليل في أوكار الهوى. هكذا بدأت حكايات حليمة مع الليل.

حليمة ليست الوحيدة، فحي بئر الشفاء مضجع بمختلف الظواهر الاجتماعية، في ظروف رديئة تفرض نفسها، حالات عديدة لفتيات يعانينا العنف المادي والجنسي والنفسي والاقتصادي… في مجتمع ذكوري يضحى فيه بالفتات لإنقاد الأسرة من أهوال الجوع وفيها رجال انقلب عليهم الليل والنهار. فيسمح باستغلال الفتاة كمادة تشبع الجوع المادي والجنسي.

Close
Close